فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}.
أي ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السموات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ولكونه ملكًا والملك مخدوم بقدر ملكه، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية، وهو قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ}، وهاهنا لطيفة: وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما: أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني: الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس مَلِكِ الناس إله الناس} [الناس: 1-3] ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلهًا أي معبودًا، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما: أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال: لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئًا ولا ملكوا شيئًا وثانيهما: أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق لأنه لو خلق شيئًا لملكه فإذا لم يملك قطميرًا ما خلق قليلًا ولا كثيرًا.
{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}.
إبطالًا لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها، والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم والله يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع ويقبل ثم نزل عن تلك الدرجة، وقال هب أنهم يسمعون كما يظنون فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع وتعلم ولكن ما كان يمكنهم أن يقولوا إنهم يجيبون لأن ذلك إنكار للمحس به وعدم سماعهم إنكار للمعقول والنزاع وإن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به، ثم إنه تعالى قال: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله: {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي بإشراككم بالله شيئًا، كما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] أي الإشراك وقوله: {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ذلك خطابًا مع النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه هو أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون الخبر عنه أمرًا عجيبًا هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير وثانيهما: هو أن يكون ذلك خطابًا غير مختص بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما قال: {وَلاَ يُنَبّئُكَ} أيها السامع كائنًا من كنت {مِثْلُ خَبِيرٍ}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قال ابن عباس: {فُراتٌ} حلو، و{أُجَاجٌ} مرّ.
وقرأ طلحة: {هذا مَلِح أجاج} بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف.
وأما المالح فهو الذي يجعل فيه الملح.
وقرأ عيسى وابن أبي إسحاق {سيغ شرابه} مثل سيد وميت.
{وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} لا اختلاف في أنه منهما جميعًا.
وقد مضى في النحل الكلام فيه.
الثانية: قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح، فقيل منهما لأنهما مختلطان.
وقال غيره: إنما تستخرج الأصداف التي فيها الحلية من الدرّ وغيره من المواضع التي فيها العذب والملح نحو العيون، فهو مأخوذ منهما؛ لأن في البحر عيونًا عذبة، وبينهما يخرج اللؤلؤ عند التمازج.
وقيل: من مطر السماء.
وقال محمد بن يزيد قولًا رابعًا، قال: إنما تستخرج الحلية من الملح خاصة.
النحاس: وهذا أحسنها وليس هذا عنده، لأنهما مختلطان، ولكن جمعا ثم أخبر عن أحدهما كما قال جل وعز: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].
وكما تقول: لو رأيت الحسن والحجاج لرأيت خيرًا وشَرًّا.
وكما تقول: لو رأيت الأصمعي وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوًا.
فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فصيح كثير، فكذا: {وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فاجتمعا في الأوّل وانفرد الملح بالثاني.
الثالثة: وفي قوله: {تَلْبَسُونَهَا} دليل على أن لباس كل شيء بحسبه؛ فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل.
وفي البخاري والنسائي عن ابن سِيرين قال قلت لعبيدة: افتراش الحرير كلبسه؟ قال نعم.
وفي الصحاح عن أنس فقمت على حصير لنا قد اسودّ من طول ما لبس، الحديث.
الرابعة: قوله تعالى: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} قال النحاس: أي ماء الملح خاصة، ولولا ذلك لقال فيهما.
وقد مَخَرت السفينة تَمْخُر إذا شقت الماء.
وقد مضى هذا في النحل.
{لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال مجاهد: التجارة في الفُلك إلى البلدان البعيدة في مدّة قريبة؛ كما تقدّم في البقرة.
وقيل: ما يستخرج من حليته ويصاد من حيتانه.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على ما آتاكم من فضله.
وقيل: على ما أنجاكم من هَوْله.
قوله تعالى: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} تقدّم في آل عمران وغيرها.
{وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} تقدّم في لقمان بيانه.
{ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} أي هذا الذي من صنعه ما تقرّر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر؛ فهو الذي يعبد.
{والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعني الأصنام.
{مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} أي لا يقدرون عليه ولا على خلقه.
والقِطمير: القشرة الرقيقة البيضاء التي بين الثمرة والنواة؛ قاله أكثر المفسرين.
وقال ابن عباس: هو شق النواة؛ وهو اختيار المبَرِّد، وقاله قتادة.
وعن قتادة أيضًا: القِطمير القِمْع الذي على رأس النواة.
الجوهري: ويقال هي النكتة البيضاء التي في ظهر النواة، تنبت منها النخلة.
قوله تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ} أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم؛ لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع.
{وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} إذ ليس كل سامع ناطقًا.
وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم.
وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولًا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر.
{وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرءون منكم.
ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل؛ كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين؛ أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقًا، وأنهم أمروكم بعبادتهم؛ كما أخبر عن عيسى بقوله: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المائدة: 116].
ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضًا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلًا للعبادة.
{وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} هو الله جل وعز؛ أي لا أحد أخبر بخلق الله من الله، فلا ينبئك مثله في عمله. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ}.
مَثلٌ ضُرب للمؤمنِ والكافرِ. والفُراتُ: للذي يكسرُ العطشَ والسَّائغُ الذي يَسهلُ انحدارُه لعذوبتِه. والأُجاج الذي يحرقُ بملوحتِه. وقُرئ سيِّغ كَسيِّد وسَيْغٌ بالتَّخفيفِ. ومَلِح ككَتِفٍ. وقوله تعالى: {وَمِن كُلّ} أي من كلِّ واحدٍ منهما {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ} أي من المالحِ خاصَّةً {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إمَّا استطرادٌ في صفةِ البحرينِ وما فيهما من النِّعمِ والمنافعِ، وإمَّا تكملةٌ للتَّمثيلِ. والمعنى كما أنَّهما وإن اشتركا في بعضِ الفوائدِ لا يتساويانِ من حيثُ أنَّهما متفاوتانِ فيما هو المقصودُ بالذَّاتِ من الماءِ لمَّا خالطَ أحدهما ما أفسدَه وغيَّره عن كمال فطرته لا يساوي الكافرُ المؤمنَ وإنْ شاركه في بعض الصِّفاتِ كالشَّجاعةِ والسَّخاوةِ ونحوهما لتباينهما فيما هو الخاصيَّةُ العُظمى لبقاء أحدهما على فطرته الأصليَّةِ وحيازتِه لكماله اللائقِ دون الآخر أو تفضيلٌ للأُجاجِ على الكافرِ من حيثُ أنَّه يشارك العذبَ في منافعَ كثيرةٍ والكافرُ خِلْوٌ من المنافعِ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله} والمرادُ بالحلية اللؤلؤُ والمرجانُ {وَتَرَى الفلك فِيهِ} أي في كلَ منهما. وإفرادُ ضميرِ الخطابِ مع جمعِه فيما سبقَ وما لحقَ لأنَّ الخطابَ لكُلِّ أحدٍ تتأتَّى منه الرُّؤيةُ دونَ المنتفعينَ بالبحرينِ فَقَطْ {مَوَاخِرَ} شواقَّ للماءِ بجريها مقبلةً ومدبرةً بريحٍ واحدةٍ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} من فضلِ الله تعالى بالنقلة فيها واللام متعلِّقة بمواخرَ وقد جُوِّز تعلُّقها بما يدلُّ عليه الأفعالُ المذكورةُ أي فعلَ ذلك لتبتغُوا من فضلِه {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولتشكُروا على ذلك. وحرفُ التَّرجِّي للإيذانِ بكونِه مرضيًا عند الله تعالى.
{يُولِجُ الليل في النهار وَيُولِجُ النهار في الليل} بزيادةِ أحدِهما ونقصِ الآخرِ بإضافةِ بعضِ أجزاءِ كلَ منهما إلى الآخرِ {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج. واختلافُهما صيغةً لما أنَّ إيلاجَ أحدِ المَلَوينِ في الآخر متجددٌ حينًا فحينًا، وأمَّا تسخِّيرُ النيرِّينِ فأمرٌ لا تعدُّدَ فيه وإنَّما المتعددُ والمتجددُ آثارُه. وقد أُشير إليهِ بقولِه تعالى: {كُلٌّ يَجْرِى} أي بحسبِ حركتِه الخاصَّةِ وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميَّةِ المُتعدِّدةِ حسب تعدُّدِ أيَّام السَّنةِ جَريانًا مستمرًَّا {لأجل مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريانهما وهو يومُ القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله وقيل: جريانُهما عبارةٌ عن حركتيهما الخاصَّتينِ بهما في فلكيهما، والأجلُ المُسمَّى هو منتهى دورتيهما، ومدَّةُ الجريانِ للشَّمسِ سنةٌ وللقمرِ شهرٌ وقد مرَّ تفصيلُه في سُورة لقمانُ {ذلكم} إشارةٌ إلى فاعلِ الأفاعيلِ المذكورةِ، وما فيهِ من معنى البُعدِ للإيذانِ بغايةِ العظمةِ وهو مبتدأٌ وما بعدَه أخبارٌ مترادفةٌ أي ذلكُم العظيُم الشَّأنِ الذي أبدعَ هذه الصَّنائعَ البديعةَ {الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك} وفيه من الدِّلالةِ على أنَّ إبداعَه تعالى لتلك البدائعِ ممَّا يُوجبُ ثبوتَ تلك الأخبارِ له ما لا يخفى، ويجوزُ أنْ يكونَ الأخيرُ كلامًا مُبتدًا في مقابلةِ قوله تعالى: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ} للدِّلالةِ على تفرُّدِه تعالى بالأُلوهيَّةِ والرُّبوبيَّةِ. وقُرئ يَدعُون بالياءِ التحتانيةِ. والقطميرُ لفافةُ النَّواةِ وهو مَثَلٌ في القلَّةِ والحقارةِ.
{إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ}.
استئنافٌ مقرر لمضمون ما قبله كاشفٌ عن جليةِ حالِ ما يدعونَه بأنَّه جمادٌ ليس من شأنِه السَّماعُ {وَلَوْ سَمِعُواْ} على الفرضِ والتَّقديرِ {مَا استجابوا لَكُمْ} لعجزِهم عن الأفعالِ بالمرَّةِ لا لما قيلَ من أنَّهم متبرِّئون منكم وممَّا تدعُون لهم فإنَّ ذلك ممَّا لا يُتصور منهم في الدُّنيا {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يجحدونَ بإشراكِكم لهم وعبادتِكم إيَّاهم بقولِهم ما كنتُم إيَّانا تعبدونَ {وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي لا يخبرك بالأمرِ مخبرٌ مثلُ خبيرٍ أخبرَك به وهو الحقُّ سبحانَه فإنَّه الخبيرُ بكُنهِ الأمورِ دُون سَائرِ المخبرين. والمرادُ تحقيقُ ما أخبر به من حالِ آلهتِهم ونفيُ ما يدَّعُون لهم من الإلهيةِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ} طيب {فُرَاتٌ} كاسر العطش ومزيله.
وقال الراغب: الفرات الماء العذب يقال للواحد والجمع، ولعل الوصف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع {سَائِغٌ شَرَابُهُ} سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس.
وقرأ عيسى {سيغ} كميت بالتشديد، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم.
وقرأ عيسى أيضًا {سيغ} كميت بالتخفيف {فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ} متغير طعمه التغير المعروف.
وقرأ أبو نهيك وطلحة {مِلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام.
قال أبو الفتح الرازي: وهي لغة شاذة، وجوز أن يكون مقصورًا من مالح للتخفيف، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل.
وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره، وقال بعضهم: لم يرد مالح أصلًا وهو قول ليس بالمليح {أُجَاجٌ} شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: {وَمِن كُلّ} أي من كل واحد منهما {تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} أي غضا جديدًا وهو السمك على ما روي عن السدى، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول، والتعلير عن السمك باللحم مع كونه حيوانًا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل، ووصفه بالطراوة للاشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ كله.
واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحمًا وأكل سمكًا، وقال غيرهما: لا يحنث لأن مبني الأيمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرًا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 55] ولا يبعد عندي أن يراد بلحمًا لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامّة {وَتَسْتَخْرِجُونَ} ظاهره ومن كل تستخرجون {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويابس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وكون بعض الضخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرًا، وقيل: لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلًا فتحمل ويتحلى بها، وفيه ما فيه لاسيما إذا كانت الحلية كالحلى ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره، ولا يخفى ما فيه من العبد.
وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدى يحتمل ثلاثة أوجه، الأول أنه استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع.